حوارات أمبرطو إيكو مع ثعلب السيمياء (الحلقة العاشرة والأخيرة)

حوارات أمبرطو إيكو مع ثعلب السيمياء (الحلقة العاشرة والأخيرة)

الوردة، البندول، والمتاهة الأخيرة… حيث تصبح النهاية بدايةً أخرى

المكان: ليس مكتبةً هذه المرة، بل “الْمَنْسَخ” (Scriptorium) بالمعنى الديري للكلمة. فضاءٌ أشبه بورشة “بيلبو” في رواية “بندول فوكو”، تتكدس فيه المخطوطات بجانب شاشات حاسوب عتيقة، إلا أن
جدرانه من زجاج شفيف، يطل أحدها على أطلال دير محترق من “اسم الوردة”، ويطل الآخر على ضباب باريس الكثيف. عبق الورق العتيق يمتزج بأزيز خفيض لكهرباء ساكنة، كأنها أنفاس الأفكار العالقة.

الثعلب: (ينسلُّ من بين الظلال، في عينيه وميض جمرتين من الفطنة) إذن، أيها المعلم إيكو، بلغنا الخاتمة. فكل حوارٍ لا بد له من نهاية، وكل نصٍّ لا بد له من سطر أخير. أليست النهاية هي العلامة الأشد سطوةً على الإطلاق؟ فهي وحدها من تكسو كل ما سبقها بثوبه المهيب الأخير.

أمبرطو إيكو: (يطبق مجلداً ضخماً برفق، فيتردد الصوت في الصمت) النهاية ليست علامة، يا صديقي المخاتل المراوغ. النهاية “حَدّ”. والحدود لا تشير إلى ما سواها، بل تفصل بين “ما كان” و”ما لم يعد”. القارئ وحده من يحيل هذا الحدَّ إلى علامة، فيدمغه بـ”مأساة” أو “خلاص” أو “سكينة”. إننا نسكن غابة من العلامات التي نسجناها بأيدينا كي نستأنس وحشة الحدود الصارمة.

الثعلب: (يقترب، ويطوف حول مقعد إيكو) لكنكَ أفنيتَ العمر في مطاردة العلامات، تفكيك مبهماتها، والتلذذ بفيض تأويلاتها. والآن عند الحدِّ الأخير، تتبرأ منها؟ ألا ترى أن “الموت” نفسه هو النص المفتوح بامتياز؟ لم يعد أحدٌ من هناك ليفرض علينا تأويلاً قاطعاً. إنه يتركنا أمام فيض من المعاني لا ينضب: جنة، جحيم، فناء، تقمص… كل حضارة تخطُّ تفسيرها الخاص لهذه العلامة الملغزة المهيبة.

إيكو: (ترتسم على شفتيه ابتسامة شاحبة) لقد فاتك الجوهر واللب. لم تكن المتعة في العلامات لذاتها، بل في “محاورتها”. في رحلة التيه عبر دهاليز التفسيرات. العلامة التي تستعصي على الحوار تفقد قيمتها. ولهذا، فإن الصمت الذي يتلو الحد النهائي ليس علامة، بل هو انقطاع الحوار. إنه انتصار الواقع الأصم على تشبيكات السيمياء التي نغزلها حوله في محاولة يائسة لترويضه.

الثعلب: (يجلس حذو قدمي إيكو، ولأول مرة تخفت في نبرته وخزة المكر) إذن، ما هي العلامة الأخيرة التي ستخلفها أنت، يا أمبرطو؟ ما الرمز الأخير في هذه المكتبة الممتدة؟

إيكو: (ينظر إلى يديه، ثم إلى الركام المعرفي من حوله، ثم يرسل عينيه في عيني الثعلب) المكتبة ذاتها. كل هذه المجلدات ليست مجرد نصوص، بل هي علامات كبرى على حوارٍ ممتد عبر العصور  لم يمت. علامة على أن الكائن البشري سيظل يمارس محاولته البديعة واليائسة لتحويل حدود الواقع الخرساء إلى علامات ناطقة. علامتي الأخيرة هي “القارئ القادم” الذي سيفتح هذه المجلدات من بعدي، ليبدأ حواره الخاص. أنا أتوقف هنا، لكن الحوار يواصل جريانه عبر الأزمنة والأحقبة. تلك هي علامتي الأخيرة التي أتحايل بها.

يخبو النور ببطء، فينسرب الثعلب عائداً إلى الاختفاء بين ظلال الكتب كحبر انسكب على ورق. يبقى أمبرطو إيكو جالساً في سكون، شبيها بـِ”نهاية”، أو علامة استفهام أخيرة، عُلّقت في قلب المعاني السيميائية اللانهائية.

(النهاية)

Leave a Reply

Your email address will not be published.