ْاحتجاجات جيل زد المغربي الذي طالما اعتبرناه جِيلْ قِيمّْش

ْاحتجاجات جيل زد المغربي الذي طالما اعتبرناه جِيلْ قِيمّْش

تمهيد : من وصم جيل “قيمش” إلى فاعل سياسي رقمي

لقد شكلت الاحتجاجات الأخيرة التي قادتها مجموعة شبابية عبر الإنترنت تحت مسمى “جيل زد 212” (GENZ212) في المدن المغربية، وتحديداً في سبتمبر 2025، منعطفاً حاسماً في العلاقة بين الدولة المغربية والأجيال الجديدة. هذه التحركات لم تكن مجرد مطالب اجتماعية عابرة، بل كانت إعلاناً صارخاً بانتهاء مرحلة الوصم السلبي التي لازمت هذا الجيل طويلاً، والتي لخصتها العبارة الدارجة “جيل قيمش”.

الجدل حول “جيل قيمش”

لطالما استخدم الوصم التقليدي “جيل قيمش” (ما يحشم ما يرمش) في الأوساط المجتمعية المغربية لوصف الشباب الذي يُنظر إليه على أنه يفتقر إلى القيم أو الحياء الاجتماعي، أو يعاني من اللامبالاة والانسحاب من الشأن العام. هذا الوصف، الذي غالباً ما يترافق مع اتهامات بأن هذا الجيل سيشكل “مجتمعاً فاشلاً 100%” ، تم تداوله لسنوات لتبرير عزلة الشباب عن المؤسسات الرسمية وتصنيف تحركاتهم ضمن خانة السلوك غير المنتج أو الفرداني. بالنسبة للجزء الأكبر من الأجيال السابقة، كان “قيمش” مرادفاً للانسحاب السياسي وغياب الوعي الوطني.  

متلازمة إعلان الحضور وكسر الصمت

غير أن الدعوة التي انطلقت من الفضاء الرقمي، وخاصة من تطبيقات التواصل اللامركزية، إلى النزول للشارع للمطالبة بإصلاح قطاعات أساسية كالصحة والتعليم، شكلت تحدياً مباشراً لهذا الوصم. إن الفعل الاحتجاجي ذاته يُعد عملاً سياسياً بامتياز، يهدف إلى تسييس القضايا الاجتماعية والخدمية، وقلب السردية القائلة بأن الشباب فاشل أو لا مبالٍ. عندما يخرج هذا الجيل إلى الشارع، فإنه يعلن أن الفشل ليس في قيمه، بل في فشل المؤسسات في تحقيق التنمية العادلة والخدمات اللائقة.  

أكدت وقفات سبتمبر 2025 أنها إعلان رسمي بانتهاء مرحلة “الموت السياسي” التي وُصف بها الجيل طويلاً. إن اختيار اسم GENZ212 يحمل رمزية عميقة، إذ يربط هوية الجيل الرقمي (Z) بالرمز الوطني للمغرب (212)، مؤكداً الانتماء والفاعل السياسي الجديد الذي يرفض أن يظل على الهامش. لقد تحول الوصم الاجتماعي السلبي إلى دافع لتأكيد الحضور، معلناً أن زمن الصمت قد انتهى وأن المستقبل يجب أن “يُنتزع انتزاعاً”. 

المحور الأول: سوسيولوجيا الغضب المتراكم وجذور الأزمة

لا يمكن فهم صعود حراك “جيل زد” بمعزل عن سياقه الاجتماعي والاقتصادي المتفجر. فالاحتجاجات الأخيرة لم تكن مجرد “نزوة عابرة”، بل كانت تتويجاً لاحتقان اجتماعي متراكم ونتاجاً لواقع مرير يواجهه الشباب المغربي في أهم قطاعات الحياة.  

خريطة المطالب البراغماتية: من الثورة الدستورية إلى العيش الكريم

اتسمت مطالب مجموعة GENZ212 ببراغماتية عالية، حيث ركزت بشكل أساسي ومباشر على قضايا اجتماعية خدمية، على رأسها إصلاح منظومة التعليم وتحسين خدمات الصحة العمومية، بالإضافة إلى محاربة الفساد وغلاء الأسعار. هذا الاختيار للمطالب ليس عشوائياً، بل هو استراتيجية واعية تعكس تحولاً جذرياً في طبيعة الحراك الشبابي المغربي بعد تجارب سابقة.   

على خلاف “حركة 20 فبراير” التي ركزت على مطالب سياسية ودستورية عميقة (الملكية البرلمانية وفصل السلطات) ، اختار جيل زد التركيز على “العيش الكريم ورفاهية المجتمع”. هذه المطالب موجهة بشكل مباشر إلى الحكومة التنفيذية وليس إلى جوهر النظام السياسي. هذه البراغماتية، التي تؤكد الالتزام بالعمل “ضمن إطار الدولة والملكية”، تقلل من مساحة المواجهة السياسية المباشرة، وتسمح للحركة بالحصول على توافق مجتمعي أوسع، مع توجيه الضغط نحو الحكومة الحالية وتحميلها مسؤولية “تردي الأوضاع الاجتماعية”.   

يُعد الإحباط الاقتصادي وتراجع فرص الاندماج المهني أحد الدوافع الأساسية لهذا الحراك. يعاني جيل زد من نسب بطالة قياسية، خاصة في صفوف حاملي الشهادات، مما يولد لديه شعوراً عميقاً بالإحباط واليأس. هذه الأزمة تنبع مباشرة من تردي جودة التعليم العمومي، الذي لم يعد يواكب التحولات العالمية ولا يلبي متطلبات سوق الشغل، مما يفاقم ظاهرة هجرة الأدمغة (Brain Drain).   

إن فقدان الكفاءات والطاقات الشابة، التي استثمرت الدولة في تكوينها لسنوات طويلة، يمثل خسارة وطنية مزدوجة لا تقتصر فقط على الجانب البشري، بل تضرب في عمق الأمن الاقتصادي للمغرب. عندما لا يجد الشباب بيئة تحترم طموحاتهم وتستجيب لمطالبهم المشروعة، فإن خيار الرحيل يصبح الخيار الأكثر جاذبية. وقد تراكم هذا الإحباط، متزامناً مع احتجاجات سابقة على غلاء الأسعار وتدهور خدمات المستشفيات، مما أدى إلى إضعاف الرواية الرسمية حول “فرح” المواطنين بإنجازات الحكومة.   

الفراغ السياسي وأزمة الثقة بالمؤسسات التقليدية

يأتي خروج حراك GENZ212 في ظل ما يصفه مراقبون بـ “أزمة سياسية صامتة” وانسداد أوسع في المشهد السياسي. لقد عانت الأحزاب والنقابات من ضعف تنظيمي وفقدان للمصداقية لدى الشباب، مما جعلها غير قادرة على استيعاب طموحات الجيل الجديد.   

أدى تفريغ الفضاء السياسي من المعارضات القوية وترسيخ المقاربة الأمنية في السنوات الأخيرة إلى تعميق الهوة بين المواطنين ومؤسسات الدولة. النتيجة هي شعور عام بغياب مخاطب سياسي حقيقي قادر على تمثيل هذا الجيل. هذا الفراغ هو الذي يفسر الحاجة إلى مبادرات رقمية مستقلة تماماً عن الأطر التقليدية. وقد قوبلت محاولات الأحزاب والنقابات التقليدية، التي حاولت تنظيم تظاهرات بالتزامن مع موعد GENZ212 ، بتشكيك واسع ورفض جلي من قبل الشباب الذين نفوا أي انتماء حزبي أو نقابي.   

الجدول التحليلي الأول: مطالب جيل زد والقطاعات الحكومية المعنية

المطلب المحوري التفصيل والتركيز القطاع/القضية المعنية دلالة المطلب على وعي الجيل
إصلاح منظومة التعليم   تجويد البنية التحتية والمناهج، ملاءمة التعليم لسوق الشغل   

الموارد البشرية والتوظيف                  رفض لتعليم غير منتج يؤدي للبطالة

تحسين خدمات الصحة العمومية    توفير جودة الخدمات الأساسية، إنهاء تدهور المستشفيات   

الخدمات الاجتماعية         إحساس بالإهمال الحكومي في أبسط الحقوق
مكافحة الفساد وغلاء الأسعار الشفافية في الصفقات العمومية ومحاربة “الشناقة”    

الحكامة الرشيدة والرقابة إدراك مباشر لوجود هدر للمال العام يؤثر على العيش الكريم

المحور الثاني: هندسة التعبئة الرقمية اللامركزية

يُعد النمط التنظيمي لحراك GENZ212 أبرز ما يميزه عن الحركات الاحتجاجية السابقة، إذ يمثل هذا الحراك تحولاً نموذجياً نحو التعبئة اللامركزية التي تعتمد على التكنولوجيا كأداة أساسية للتنظيم والاحتجاج.

ديسكورد غرفة عمليات” جديدة

برزت مجموعة GENZ212 ونظمت دعوتها للنزول إلى الشارع عبر منصات رقمية غير تقليدية، وعلى رأسها تطبيق “ديسكورد” (Discord). يعكس اختيار هذه المنصة استراتيجية حذرة وذكية، حيث يوفر “ديسكورد” خصائص تسمح بـ “التنظيم اللامركزي” بعيداً عن أروقة الأحزاب والنقابات التي فقدت مصداقيتها.  

تتيح هذه المنصات قدراً عالياً من الخصوصية، مما يجعل مسألة التأطير جد معقدة وصعبة على السلطات، التي اعتادت على التعامل مع قيادات تقليدية أو تنظيمات مؤطرة. إن التنظيم عبر “ديسكورد” يمثل تحدياً وجودياً للفاعل السياسي المغربي الذي يعتمد على آليات حوار مؤسسي تقليدية، فكيف يمكن للدولة أن تحاور حركة غير مؤطرة حزبياً وتعتمد على خوارزميات الغموض في تعبئتها؟   

جيل الخصوصية ورفض الاستئذان

إن السمات السوسيولوجية لـ “الجيل زد” (مواليد ما بعد 1996) تؤثر بشكل مباشر على أنماط مشاركته السياسية. فهذا الجيل هو “الرقمي الأصيل” الذي ولد في عصر الهواتف الذكية والإنترنت. وقد نشأوا في عالم رقمي مفتوح، حيث ضعفت لديهم أهمية المرجعيات الأخلاقية أو السياسية المستقرة لصالح الفردانية والبراغماتية والخصوصية.   

يولي هذا الجيل أهمية قصوى للخصوصية الشخصية، لدرجة رفض مشاركة الصور أو إفشاء كلمات المرور. هذا التركيز على الخصوصية ينعكس في نمط تعبئتهم السياسية الحذر والسريع واللامنتمي. إنهم يتحدون القمع بخطوات واضحة، متسلحين بوسائل التواصل كـ “منبر حر” يكسر احتكار الإعلام التقليدي. ومع ذلك، فإن هذه الحيوية في التعبئة السريعة قد تكون نقطة ضعف، فالفضاء الافتراضي يخضع لسطوة خوارزميات و”ثقافة التريند”، مما قد يفرغ الفعل الاحتجاجي من عمقه السياسي على المدى الطويل، ويحوله إلى مجرد رمز للانتماء الجماعي وليس تعبيراً عن قناعة فكرية راسخة.

مقارنة سوسيولوجية: جيل زد وحراك 20 فبراير

على الرغم من أن حراك GENZ212 يعيد إلى الأذهان زخم حركة 20 فبراير 2011 ، إلا أن هناك اختلافات جوهرية في السياق والوسائل وطبيعة المطالب.   

مُحدِّد المقارنة حركة 20 فبراير (2011) حراك جيل زد GENZ212 (2025)
جيل القادة/الفاعلين مزيج من جيل الألفية والناشطين التقليديين جيل زد (مواليد ما بعد 1996) رقمي أصيل    

المنصة الرئيسية للتعبئة فيسبوك، تنظيمات تقليدية (إسلاميون ويساريون)     ديسكورد، تيك توك، ومنصات لامركزية    
طبيعة المطالب مطالب سياسية ودستورية عميقة (ملكية برلمانية، فصل السلطات) مطالب اجتماعية خدمية واضحة (صحة، تعليم، شغل)    
العلاقة بالمؤسسات محاولة العمل داخل فضاء سياسي تقليدي (جزئياً) لا انتماء حزبي أو نقابي؛ تشكيك واسع في المؤسسات    
السردية الجيلية كسر جدار الخوف     كسر أسطورة اللامبالاة والبراغماتية    

 

في حين أن حركة 20 فبراير كانت مدفوعة بإيديولوجيات وقضايا كبرى ، فإن حراك جيل زد يتميز بالبراغماتية والتركيز على الحلول العملية المباشرة المرتبطة بالعيش اليومي، كما أنه يرفض بشكل قاطع أن يُؤطر حزبياً أو نقابياً. إن القيمة الحقيقية لجيل زد لا تكمن في قدرته على الحشد الهائل، بل في قدرته على كسر الصورة النمطية القديمة عن اللامبالاة السياسية.

المحور الثالث: وقائع المواجهة: يوم الغضب الممنوع والمقاربة الأمنية

شهد يوم السبت 27 سبتمبر 2025 فصلاً جديداً ومختلفاً في سجل الاحتجاجات الاجتماعية بالمغرب. بعد دعوات رقمية مكثفة، حاولت مجموعة جيل زد ترجمة غضبها الافتراضي إلى حراك ملموس في الشارع، لكنها اصطدمت بمقاربة أمنية حاسمة.

تفاصيل احتجاجات يومي 27 و 28 سبتمبر 2025

انطلقت الدعوات للتظاهر في عدة مدن مغربية كبرى، أبرزها الرباط والدار البيضاء وطنجة ومراكش، للمطالبة بإصلاح التعليم والصحة ومكافحة الفساد. وقابلت السلطات العمومية هذه الدعوات بالمنع والتدخل الأمني المكثف لتفريق التجمعات التي وُصفت بـ “غير المرخصة”.   

أسفر هذا التدخل الأمني عن توقيف العشرات من الشباب المشاركين، واقتيادهم إلى مراكز الشرطة للتحقق من هوياتهم. وقد تم الإفراج عن أغلب الموقوفين تدريجياً بعد الاستجواب، بما في ذلك ناشطون ذكرت أسماؤهم في السياق. ورغم أن الحصيلة الميدانية تمثلت في منع وتفريق وتوقيفات، إلا أن خطوة النزول إلى الشارع بحد ذاتها كانت حدثاً مفصلياً يعيد طرح الأسئلة حول مستقبل الاحتجاج الاجتماعي في المملكة.   

الانتقادات الحقوقية والسياسية للمنع

أثارت المقاربة الأمنية جدلاً حقوقياً وسياسياً واسعاً. فقد أعربت هيئات حقوقية وسياسية عن استنكارها لتوقيف المتظاهرين، مؤكدة أن المطالب مرتبطة مباشرة بملفات حساسة كالصحة والتعليم، وأن الدولة مطالبة باحترام حرية التعبير والتجمع السلمي المكفول دستورياً.   

أدانت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان التدخل الأمني، ودعت إلى “تحقيق نزيه وعاجل حول ما رافق التدخلات الأمنية من استعمال مفرط للقوة”. على المستوى السياسي، حمل حزب العدالة والتنمية الحكومة كامل المسؤولية عن “تردي الأوضاع الاجتماعية” ودعا إلى اعتماد مقاربة أكثر حكمة، في حين فكر المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الموحد جدياً في مقاطعة الانتخابات عقب هذه الأحداث، معتبراً أن ما وقع “أعاد المغرب إلى سنوات كان الجميع يعتقد أنه تجاوزها”. كما ندد حقوقيون بالمنع، واصفين اعتقال المتظاهرين أثناء الإدلاء بتصريحات للصحافة بـ “خرق للدستور والمواثيق الدولية”.   

انعكاسات أزمة الثقة على دور الأجهزة الأمنية

تنبع إحدى أخطر نتائج هذه الأزمة من كيفية تحويل دور الأجهزة الأمنية في المشهد العام. إن المشكلة الأساسية تكمن في فشل المؤسسات الحكومية والبرلمان والمسؤولين في معالجة الإشكاليات المطروحة (الصحة، التعليم، غلاء الأسعار). وغالباً ما تتسم قرارات المسؤولين بكونها متسرعة وغير مدروسة.   

في ظل غياب جهود المؤسسات الحكومية والمختصة، تجد الإدارات الأمنية نفسها في مواجهة مباشرة مع الشباب الذين يرفعون شعارات تجد صداها لدى المواطن العادي. إن هذا الوضع يحول المؤسسة الأمنية، في نظر قطاع من الشعب والجهات الخارجية، إلى “جهة قامعة للمواطن” و “حامية لأولئك المسؤولين الفاشلين والفساد”. يكمن التداعيات الاستراتيجية لهذه المقاربة في أن الغضب، الذي كان موجهاً في الأساس ضد فشل الحكومة التنفيذية ، يتحول إلى استنكار للقمع الأمني. وفي حال استمرار تجاهل الأسباب الجذرية، فإن المشكلة قد تتجاوز حدود الحكومة لتلامس جدار المؤسسة الملكية، حيث يطالب الشعب بالتدخل لحل مشاكل خلقها مسؤولون لم يتحملوا مسؤوليتهم كما يجب.   

المحور الرابع: صراع السرديات: “الطوابرية” وخطاب الأجندات الخارجية

في مواجهة الحراك الشبابي الذي يهدد الرواية الرسمية حول الاستقرار والرضا، برزت سردية مضادة تهدف إلى شيطنة الحراك ونزع الشرعية عن مطالبه المشروعة، من خلال ربطها بأجندات مشبوهة وعناصر معادية.

السردية الرسمية المضادة: محاولة شيطنة الحراك

تمثلت أبرز محاور السردية المضادة في اتهام المحتجين، أو الأطراف التي حاولت الركوب على موجتهم، بأنهم “طوابرية” و”عدميون” و”مرتزقة سياسيون” يعملون على “إشعال الفتنة وزرع البلبلة”. هذا الخطاب يحاول تحويل المطالب الاجتماعية المشروعة إلى حملة تحريضية هدفها زعزعة الاستقرار.   

تشير هذه السردية إلى أن أيدي خفية، تنتمي لتيارات راديكالية معروفة (مثل بعض النشطاء اليساريين أو أتباع جماعات إسلامية متطرفة) ، استغلت الغضب الشبابي. الهدف المعلن من هذا التوصيف هو تضخيم الدعوة وتحويلها من مطالب اجتماعية إلى مواجهة مع السلطة. وقد استُخدمت عبارة “الذباب الإلكتروني المجيش” لوصف هذه الفئة التي تستغل خوارزميات المنصات لنشر الشائعات وتضخيم التوترات. إن شيطنة الحراك بهذه الطريقة تنزع عنه الصفة الشعبية والمطلبية، وتحوله إلى قضية أمنية يتم التعامل معها على هذا الأساس.   

تفكيك خطاب “الأجندات الخارجية”

يمثل تبسيط الاحتجاجات بوصفها “عفوية” لكنها تخدم “أجندة سياسية خارجية” خطأً شنيعاً في التحليل الاستراتيجي. يهدف هذا الخطاب إلى حماية المنظومة الأمنية والقرار السياسي للدولة من أي اختراق، عبر تصوير الاحتجاجات كبيئة خصبة لتنزيل “مخططات الجهات الفاعلة غير الحكومية العنيفة المتربصة بالوطن”.   

يكمن الغرض التحليلي لهذا الطرح في نزع المصداقية عن الدوافع الداخلية للحراك، وتحويل الغضب الاجتماعي العميق النابع من سوء الإدارة والفساد إلى “صراع غير متماثل” مع قوى خارجية. هذه المقاربة تسمح بتبرير “التدخل الحاسم والمحترف” كضرورة لحماية الأمن القومي. لكن في واقع الأمر، تتجاهل هذه السردية حقيقة أن جذور الأزمة داخلية وتتعلق بالفشل في الاستجابة لتطلعات الجيل الجديد.   

فشل “القوة الذكية” في إدارة التواصل

كشفت الاحتجاجات عن قصور خطير في جودة وفعالية آليات “التواصل الاستراتيجي” المعتمدة من طرف الفرقاء الحكوميين. إن إصرار هذا الجيل على التعبير خارج القنوات الدستورية المتاحة (كالأحزاب) يمثل تحدياً وجودياً للفاعل السياسي الذي يفترض به تأطير المجتمع.   

إن الإخفاق في إدارة التواصل يفتح ثغرة خطيرة، يستغلها المتربصون لتشويه السردية الرسمية وزيادة حدة الاستقطاب. وقد ساهمت العبارات “اللاسياسية” التي صدرت عن بعض المسؤولين، مثل وصف الشباب بـ “الذباب” أو “باردين الكتاف”، في زيادة الطين بلة، إذ أنها تسيء للتراث النضالي والسياسي المغربي وتعمق الشعور بالتهميش والحكرة. إن الحل لا يكمن في إنكار الحراك أو شيطنته، بل في تطوير آليات “القوة الذكية” التي تستجيب للمطالب المشروعة مع ضبط مسار الحوار ضمن إطار يضمن عدم استغلاله.  

المحور الخامس: التأثير الاستراتيجي والاستشراف

يمثل حراك “جيل زد” لحظة إقليمية ودولية متقاطعة تعيد تعريف معنى السياسة بالنسبة لجيل يرفض أن يظل على الهامش. إن تداعيات هذا الحراك تتجاوز البعد الأمني والسياسي المباشر لتشمل الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للمملكة.   

خطر “كرة الثلج” الاجتماعية

يرى المحللون أن المغرب يقف اليوم أمام مفترق طرق حقيقي. في حال تجاهل مطالب الشباب ومواجهة تحركاتهم بالمقاربة الأمنية والقمع، فإن الغضب الرقمي المحدود قد يتحول تدريجياً إلى “كرة ثلج” تتدهور وتتحول إلى حركة اجتماعية أوسع يصعب التحكم فيها.   

إن المقاربة الأمنية، وإن كانت قد تخمد أصوات الاحتجاج مؤقتاً، إلا أنها لا تزيل الأسباب العميقة ولا تعالج جذور السخط المتراكم. المقاربة القمعية تعزز الإحباط وتغذي السخط، مما يدفع الجيل الجديد إلى التمسك بحضوره، سواء في الشارع أو عبر الفضاء الرقمي.   

البعد الاقتصادي للأمن الاجتماعي

إن انعكاسات هذه الاحتجاجات تمتد لتضرب في عمق الاقتصاد الوطني. يعد الاستقرار الاجتماعي شرطاً أساسياً لاستمرار تدفق الاستثمارات وخلق فرص العمل. عندما يراقب المستثمرون المحليون والدوليون المشهد، فإن أي توتر في الشارع يترجم إلى صورة سلبية عن المناخ العام، ويدفع الشركات إلى التردد في ضخ الأموال أو تأجيل مشاريعها.   

بالتالي، فإن المقاربة الأمنية في التعامل مع مطالب اجتماعية مشروعة تعتبر قصيرة الأمد وغير فعالة استراتيجياً، حيث إنها تزيد من نزيف الأدمغة وتفاقم أزمة البطالة. إن ضمان الحق في الكرامة والعدالة الاجتماعية للشباب أصبح شرطاً استراتيجياً لبناء اقتصاد تنافسي ومستدام، وليس مجرد مطلب سياسي.   

مستقبل المشاركة الشبابية في المغرب

أثبت حراك “جيل زد” أن الجيل الجديد ليس مجرد مستهلك صامت للإنترنت، بل فاعل سياسي واجتماعي يتحدى جدار الصمت بأدواته الجديدة. هذا الجيل لا يحمل إرث الهزيمة ولا يرضخ لخطاب التخويف، بل يحمل “روحاً جديدة” تؤمن بالتغيير.  

سواء تحول هذا الجيل إلى قوة ضغط دائمة أو عاد إلى الانطواء، فإن ذلك يتوقف بشكل كبير على استجابة الدولة لمطالبه المشروعة. إذا تم احتواء طاقته البراغماتية ضمن مسار إصلاحي حقيقي، يمكن لهذا الجيل أن يكون شريكاً في التنمية. أما إذا استمرت سياسات الإقصاء والقمع والتهميش، فإن موجات الغضب ستستمر، وستتحول التعبئة الرقمية إلى قوة الشارع بشكل متزايد.

نحو رؤية وطنية لاحتواء طاقة الجيل الجديد

تمثل احتجاجات “جيل زد 212” دلالة واضحة على نهاية أسطورة “جيل قيمش” واللامبالاة الجيلية، وتأكيداً على الحق في الكرامة والعدالة الاجتماعية. إن هذا الحراك ليس مؤامرة خارجية، بل هو نتاج مباشر للاحتقان الاجتماعي والفشل المتراكم في إدارة قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم، والذي تفاقم بسبب غياب الثقة في المؤسسات التقليدية والأحزاب.   

إن التحدي الذي يواجه الدولة المغربية اليوم لا يتعلق فقط بكيفية التعامل مع الاحتجاجات في الشارع، بل بكيفية التكيف مع احتجاجات تختلف جوهرياً عن الحركات السابقة. إن الفاعلين الرقميين الجدد يعملون خارج الأطر المألوفة، مما يتطلب استجابة استراتيجية قائمة على الحكمة لا على القمع.   

توصي التحليلات بتبني مقاربة شمولية تتجاوز البعد الأمني قصيرة الأمد:

الحوار المؤسسي الفعال: ضرورة تبني الدولة لآليات تواصل تستوعب الفاعلين الرقميين الجدد وتتجاوز القنوات الحزبية المهترئة. يجب تطوير “القوة الذكية” لإدارة الأزمات والتفاعل الإيجابي مع المطالب المشروعة.

الإصلاح الاقتصادي الاجتماعي الجذري: يجب أن تكون هناك استجابة حقيقية وعاجلة للمطالب الأساسية المتعلقة بتحسين جودة التعليم وخدمات الصحة العمومية ومحاربة الفساد. إن الإصلاح الحقيقي في هذه القطاعات هو الضمانة الوحيدة لقطع الطريق على موجات الغضب القادمة ووقف نزيف الرأسمال البشري.

تحمل المسؤولية السياسية: محاسبة المسؤولين عن الفشل في القطاعات الخدمية لرد الاعتبار للمؤسسات وتجنب تحويل المؤسسة الأمنية إلى واجهة لحماية الفساد الحكومي.

إن جيل زد يعلن اليوم أن معركة الشارع ليست عابرة، والمغرب يقف أمام لحظة تاريخية تتطلب الانفتاح الحقيقي على طموحات شبابه كشرط لاستمرار الاستقرار والتنمية.

Leave a Reply

Your email address will not be published.