حوارات كافكا مع ثعلب المتاهة (3)

حوارات كافكا مع ثعلب المتاهة (3)

المسخ الجديد: الإنسان في زمن الآلات

هجرة غريغور سامسا إلى آلة إنتاج مُعطّلة

إنّ الفكرة التي تُقلق فرانتز كافكا، وتُشعل خياله العبثي، ليست التحوّل البيولوجي العابر، بل التآكل البطيء للمعنى الذي يسبق أي مسخ جسدي. في رواية “المسخ” (Die Verwandlung)، يُصبح غريغور سامسا، مندوب المبيعات المنهك، حشرة عملاقة ذات صباح، ليس لأنه ارتكب خطيئة بيولوجية، بل لأنه تجسّد حرفياً للوظيفة التي سُجن فيها. لقد كان غريغور قبل تحوّله، بالفعل، مجرد أداة اقتصادية لعائلته وشركته، آلة لإنتاج الدخل، محاصراً ببيروقراطية السفر والعمل الرتيب. التحوّل إلى حشرة هو ببساطة الاعتراف المادي بـ العبث الوجودي لوظيفته وبـ العزلة التي فرضها عليه النظام الاقتصادي. لم يكن المسخ سوى انفجار رمزي لحالة الاغتراب التي يعيشها الإنسان الحديث.

في عصرنا، لا يحتاج المسخ إلى تحول بيولوجي درامي ليكون حقيقياً؛ لقد أصبح المسخ مسخاً اقتصادياً ونفسياً وسياسياً يُمارَس بانتظام وشرعية. الإنسان اليوم، في ظل اقتصاد العمل المرن والأتمتة الشاملة، يواجه تحوّلاً مستمراً في هويته المهنية. لقد أصبحنا نعمل ليس كـ “موظفين” بل كـ “خلايا بيانات” قابلة للاستبدال، أو كـ “عمال منصات” تُقدّر قيمتهم بسعر السوق اللحظي. هذا المسخ الجديد يتمثل في فقدان القدرة على الفصل بين الذات والوظيفة، حيث “الإنتاجية” تصبح هي المعيار الأخلاقي الأوحد للوجود. إنّ القلق الكافكاوي حول تحوّل غريغور إلى حشرة يعود اليوم في سؤال أشد قسوة: هل أصبح الإنسان مجرد “واجهة” بين خوارزميات الإنتاج وآلات الأتمتة، محروماً من كرامة العمل ومن معنى الحياة خارج شروط الإنتاج؟

الثعلب يواجه كافكا: الحشرة المُنتجة والاقتصاد المتوحش

يظهر الثعلب، هذه المرة، داخل غرفة تشبه مكتب غريغور سامسا، لكنها مليئة بالشاشات المضيئة التي تعرض بيانات الإنتاج وأسهم البورصة، كأنه يمثل روح السوق الماكرة التي تغذي هذا المسخ الحديث.

قال الثعلب مخاطباً كافكا: “لقد كنتَ ساذجا يا فرانتز عندما ظننتَ أن العبث ينتهي عند تحوّل جسد غريغور. المسخ الحقيقي بدأ عندما أرادت العائلة أن تبقى الحشرة مُنتِجة. لقد أصبحنا اليوم في وضع حيث “الحشرة العاملة” هي النموذج المثالي للاقتصاد العالمي. فكر في العامل الذي يُتابع عمله وهو مريض، أو الذي يُجبر على تتبع كل خطوة له بواسطة تطبيق المراقبة، أو الذي يعمل لساعات لا نهائية ليلبي طلبات لا عقلانية للسوق. هذا هو غريغور سامسا الجديد: هو الإنسان الذي يتقبل تحوّله إلى أداة، شرط أن يظلّ قادراً على جلب الرزق، ولو كان رزقاً هشاً.”

ويُضيف الثعلب بنبرة حادة تُشعل القلق: “الرأسمالية الحديثة، يا فرانتز، استبدلت التهديد البيروقراطي القديم بـ “قلق الأداء الدائم” (Performance Anxiety). المسخ ليس جسدياً، بل مسخاً داخلياً يُصيب الروح والهوية. فالعامل اليوم لا يخشى أن يُفصل بسبب ضعف أدائه، بل يخشى أن تُثبت الخوارزمية التي تراقبه أن “لا قيمة مضافة له” أصلاً، وأن آلة أرخص وأكثر كفاءة يمكن أن تحل محله. هذا التهديد هو أعلى صور العبث الكافكاوي؛ أن يُحكم عليك بالمحو ليس لأخطائك، بل لـ “كفاءتك المنخفضة” مقارنة بالآلة.”

لقد أصبحت المؤسسات الكبرى أشبه بـ “قلاع” جديدة، لا يمكن دخولها بالجسد، ولكن يجب أن تُسلّم لها روحك وبياناتك. وهذه القلاع الرقمية تتطلب من موظفيها ومرتاديها أن يمارسوا نوعاً من العزلة المُنتِجة، حيث يُحكم عليك بأن تكون دائماً متصلاً، ومتاحاً، وفعالاً، ومحرومًا من لحظات الانقطاع التي تُشكّل الهوية الإنسانية. إنَّ هذا المسخ الاقتصادي يُفضي إلى “مصير مجهول” للإنسان، حيث لا يعود هناك يقين لا في المهنة، ولا في الدخل، ولا في قيمة الوجود خارج دائرة الإنتاج.

العبث كخيار والتحوّل كـ “تكيّف إجباري”

في “المسخ”، كانت العائلة تُريد التخلص من غريغور في النهاية، ليس لأنه حشرة، بل لأنه توقف عن إنتاج القيمة الاقتصادية. وهنا يكمن الإسقاط السياسي والاجتماعي الأكثر إيلاماً اليوم: إنَّ المجتمعات المعاصرة، وخاصة في الغرب الليبرالي، تتعامل مع فئات كاملة من السكان على أنهم “مسوخ غير مُنتِجة”؛ كبار السن، العاطلون عن العمل لفترات طويلة، أو الأفراد الذين لا يتكيّفون مع المتطلبات الرقمية للاقتصاد الجديد. هؤلاء يُعزلون ببطء، ويتم تهميشهم، وتُقلّص حقوقهم، ليس بقرار قانوني صريح، بل بـ منطق اقتصادي عبثي يُصبح هو القانون الأسمى.

التحوّل الكافكاوي أصبح اليوم “تكيّفاً إجبارياً” لضمان البقاء الاقتصادي. إنَّ القلق الذي ولّده المسخ في كافكا كان حول نهاية الإنسانية في البيروقراطية؛ أما القلق اليوم، فهو حول الاستبدال الكامل للإنسانية بالآلة، ليس في المصنع فحسب، بل في مجالات الإبداع، والتحليل، وحتى اتخاذ القرار السياسي.

يختفي الثعلب بين الأسطر، تاركاً خلفه السؤال الباقي لكافكا ولنا: “في اقتصاد يتحوّل فيه البشر إلى ‘حشرات منتجة’ ثم يُستبدلون بالروبوتات، هل المسخ هو نهاية القصة أم أنه مجرد فصل أول في ‘متاهة’ لا ينتهي فيها تآكل الإنسان؟ وهل بقاؤنا كمُنتِجين هو دليل على الإنسانية أم على نجاحنا في التكيّف مع العبث؟”

بعد المسخ الداخلي، ننتقل إلى المسخ الخارجي، حيث لا يمكن الوصول إلى السلطة إلا بالوهم. تابعوا: “قلعة بلا مخرج: السياسة بين الوهم والسيادة”

Leave a Reply

Your email address will not be published.