المحاكمة المستمرة: من جوزيف ك. إلى المواطن الرقمي
الذنب الكافكاوي: الوجود كـتهمة
كانت صحوة جوزيف ك.، موظف البنك الدؤوب في رواية كافكا “المحاكمة” (Der Prozess)، هي اللحظة الفلسفية الأكثر إرباكاً في الأدب الحديث؛ لحظة حيث تُقتحم حياتك الهادئة من قِبل عملاء غامضين، لا لارتكابك جريمة، بل لأنك “أنت”. يبدأ المسار بـ “الذنب بلا جريمة”، حيث يصبح الوجود ذاته تهمة، وتتحول الحياة إلى سعي عبثي لإثبات البراءة في محكمة لا تُرى ولا تملك جدراناً واضحة، وكل محاولة للدفاع عن النفس هي دليل إدانة إضافي. لم تكن المحكمة في رواية كافكا مجرد نظام قضائي معطّل، بل كانت سيميائية البيروقراطية المُتوغلة، التي لا تحتاج إلى تبرير ولا تحتاج إلى دليل، لأنها تستمد سلطتها من غموضها المطلق وقدرتها على إشعار الفرد بـ العزلة المطلقة حتى وهو محاط بالآخرين. لقد تحول القلق الوجودي لكافكا إلى هيكل سلطوي يبتلع الزمن والمكان.
في العصر الحديث، استعارت هذه المحكمة الكافكاوية جسداً جديداً وأكثر فتكاً؛ لقد تخلصت من الغرف المظلمة والمحامين المتعبين، وحلت محلها شبكات الألياف البصرية، والخوارزميات الشفافة/المُعتمة، وتراكم البيانات اللامتناهي. إنَّ جوزيف ك. المعاصر لا يُعتقل في سريره، بل يُعتقل في فضاء الإنترنت؛ يُعتقل عبر بصماته الرقمية، عبر بيانات موقعه، تفضيلاته الشرائية، وانتماءاته الاجتماعية التي تُحللها آلات لا تنام. المحاكمة لم تعد “عملية” تنتهي بحكم، بل هي حالة مستمرة، “محاكمة مستدامة” (The Continuous Trial) حيث تكون تحت المراقبة دائماً، لا لاتهام محدد، بل للاشتباه الدائم بأنك قد تصبح مذنباً في أي لحظة مستقبلية تتقاطع فيها بياناتك مع متطلبات النظام.
الثعلب يكشف القاضي الجديد: الذكاء الاصطناعي كبنية بيروقراطية
بينما يتأمل كافكا في مفكرته كيف يمكن للمرء أن يثبت براءته من تهمة لم يُخبر بها قط، يتدخل الثعلب، بصوته الذي يحمل رنين السخرية والمعرفة العميقة بمسارب المتاهة.
قال الثعلب: “لقد كنتَ ساذجاً يا فرانتز عندما ظننتَ أن قضاة محكمتك كانوا بشراً. قضاة اليوم هم أكثر تجريداً وعبثاً مما تخيلت؛ إنهم الذكاء الاصطناعي، والبيروقراطية الرقمية. قضاؤهم ليس مبنياً على القانون، بل على الارتباط الإحصائي. إذا كانت بياناتك تشبه بيانات ‘من يُحتمل أن يكون مذنباً’، فأنتَ مُدان مسبقاً، وتُعامل كذلك، سواء كنت تعلم أم لا.”
وتابع الثعلب، وهو يلوح بيده في الهواء وكأنه يمزق شاشة رقمية غير مرئية: “إنَّ جوزيف ك. القديم كان يواجه محكمة تأخرت في الكشف عن التهمة، أما المواطن الرقمي اليوم فيواجه نظاماً يحكم عليه دون أن يخبره بوجود المحكمة أصلاً. عندما ترفضك جهة عمل، أو يُحرم عليك قرض مصرفي، أو تُصنّف كـ “شخص غير موثوق” في مطار، فأنت تخضع لحكم أصدرته خوارزمية، لم تكن تعرف حتى أنها تراقبك. هذا هو العبث الأرقى والأكثر فظاعة: القاضي ليس غائباً، بل هو موجود في كل مكان، لكنه غير قابل للتفسير أو المناقشة. إنها الشفافية المُعتمة في أبهى صورها”.
هذا النظام الجديد يُحوّل مفهوم المراقبة من أداة أمنية إلى بنية اجتماعية واقتصادية شاملة. فنحن لا نُراقب فقط لضبط الجريمة، بل لـ “تحسين” الخدمات، وتوجيه الإعلانات، وتشكيل السلوك الاجتماعي؛ نحن نُحوّل إلى “بيانات خام” تُباع وتُشترى في سوق لا نراه. إنَّ إشعار جوزيف ك. بذنبه الغامض هو ما جعله يركض في متاهات المحكمة؛ أما المواطن الرقمي، فقد سُحبت منه حتى حق معرفة أنه يركض أصلاً. لقد صار الذنب ليس حالة فردية، بل إمكانية وجودية يُديرها السوق والذكاء الاصطناعي، ويتم استغلالها لتعميق الفوارق الجيوسياسية والاقتصادية بين من يملك بيانات من يتحكم في “نظام تصنيف الذنب”.
المتاهة المعاصرة بين البيروقراطية الحجرية والخورازمية
في النهاية، ما يربط بين المحكمة الكافكاوية في بداية القرن والمحكمة الرقمية اليوم، هو الطبيعة البيروقراطية غير الإنسانية. فإذا كانت بيروقراطية كافكا تتسم بـ التكدس والبطء، فإن البيروقراطية الرقمية تتميز بـ السيولة والسرعة المطلقة؛ كلاهما يهدف إلى تجريد الفرد من هويته الإنسانية وتحويله إلى رقم، أو في عصرنا، إلى ملف بيانات.
إنَّ فكرة المحكمة المستمرة تتجسد في شعور الفرد المعاصر بأنه محاصر ليس فقط من قبل الحكومات، بل من قبل “القلعة الرقمية” (غوغل، ميتا، أمازون) التي تعرف عنه أكثر مما يعرف هو عن نفسه. إنَّ هذه الشركات الضخمة هي “المحاكم العليا” غير المنتخبة، التي تملك القدرة على محو هويتك الرقمية، أو تصنيفك سياسياً، أو تجميد أصولك، بـ “نقرة زر” لا تخضع لأي مراجعة قضائية إنسانية.
يختفي الثعلب في زحام المعلومات المتدفقة، مُخاطباً كافكا والقارئ في آن واحد: “لقد قُلتَ ذات مرة: ‘الطريق الوحيد لكي تنجو هو أن تصبح لاحقاً محاكمة نفسك’. ولكن اليوم، هل تستطيع يا فرانتز أن تكون محاكمة نفسك، عندما يكون ‘الذنب’ ليس في قلبك، بل في خوارزمية مُصمَّمة لتُبقي المحاكمة مستمرة إلى الأبد؟ وهل العبث هو في أنك تُحاكم بلا تهمة، أم في أنك تُحاكم بلا قاضٍ مرئي؟”
انزلاقاً من المحاكمة المستمرة، ننتقل في الحلقة التالية إلى تحول أجسادنا ووظائفنا. تابعوا: “المسخ الجديد: الإنسان في زمن الآلات”…

Leave a Reply