حين يودع الصيف كالكاتب قلمه
حين نودع الصيف من دفتر أيامنا، لا نخاله يرحل فجأة كما نظن أو يعتقد البعض، بل إنه كان ينسحب بتؤدة وخطوات متثاقلة، شبيها بكاتب أنهى روايته وأغلق دواته على آخر قطرة من الحبر التي عانقت صفحات الورق. الشمس لم تعد حارقة كما كانت، بل صارت أكثر توددا ورحمة، هذا ما أحسه في عبق الأجواء. فهي ترسل أشعتها بخجل كأنها تعتذر عن قسوة سابقة، وقد تحجبها غيوم الخريف الباهتة أحيانا كثيرة. الهواء الذي كان جافا لاهبا، صار يحمل في أنفاسه الصباحية الأولى شيئا من الرطوبة التي تبشر بميلاد الأخ القادم من سلسلة الإخوة الأربعة المتلاحقين – الخريف.
جلست على ربوة مطمئنة أرقب المشهد التحولي في خضم طقسي التجولي المعتاد، أرقب وأتأمل : هشيم السنابل التي قاومت حر القيظ طويلا بدأت تنسحب من المشهد بخشوع تام، الأشجار تفقد صخبها ونضارتها الخضراء وتتهيأ لارتداء ثوب آخر يليق بطقوس الفصل الجديد، والسماء أضحت تعكس لوحة متدرجة بين زرقة متعبة وبرتقالي خجول. حتى أصوات الطيور تغيرت، صارت أقل صخبا، أكثر اتزانا وحكمة، كأنها تشارك في طقوسيات وداع الصيف الذي يلملم أغراضه ويهم بالرحيل.
في نظر قانون الدغل والغاب، الخريف ليس أبدا نهاية القصة، بل هو فصل وسيط، فصل جديد كغيره من فصول السنة التي تتداور الأدوار على ركح الطبيعة بشكل فني بارع واستعراض زمني سلس، بل إنه معبر بين اندفاع وسكينة، بين أفول واستنهاض التجدد ونزع الثوب القديم واستعدادات للتّزيِّي بحلل جديدة. هو وعد آخر بالتحول الكافكاوي الجميل للطبيعة، وبشارة بأن كل شيء يكتب في قراطيس عالم الغاب من جديد بلغة أخرى، هي لغة الطبيعة التي نفهمها بالإشارة أكثر من العبارة. وأنا ابنها الثعلب الذي يعرف شيئا من أسرارها، وفصولها، تعلمت مذ جئت لهذا البراح الغابوي، أن الزمن لا يغادرنا مطلقا، بل فقط تتغير ملامحه كي يعلمنا في كل آن وحين درسا أو دروسا جديدة.
Leave a Reply