خرجة أخنوش الأخيرة… بين الواقع الخشن والأسئلة الناعمة

خرجة أخنوش الأخيرة… بين الواقع الخشن والأسئلة الناعمة

لم تكن خرجة رئيس الحكومة عزيز أخنوش الأخيرة مجرد إطلالة إعلامية عابرة، بل بدت وكأنها تمرين سياسي محسوب بعناية، هدفه تثبيت سردية الإنجاز وتقديم صورة حكومة متماسكة تقود أوراشًا كبرى نحو بر الأمان. في لقائه التلفزيوني الأخير، حاول أخنوش أن يضع النقاط على الحروف في ما اعتبره «حصيلة مشرفة» لحكومته، مستعرضًا قضايا السكن والتغطية الصحية والتأمين الإجباري عن المرض وأزمة الماء، ليقول للمغاربة إن الحكومة لم تتوقف رغم الأزمات، وإن التحديات عولجت بمنطق الاستمرارية والاستباق!

غير أن هذا الخطاب، الذي جاء في توقيت حساس يسبق الدخول السياسي والانتخابات المقبلة، لم يُقنع جميع المتابعين. ففي حين رأى البعض فيه محاولة لبث الطمأنينة، اعتبرته المعارضة مجرد بروباغندا سياسية مغلفة بإنجازات غير دقيقة أو منقوصة. سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة الأسبق، كان من أوائل المنتقدين، متهما أخنوش بطمس إنجازات الحكومات السابقة ونسبتها إلى نفسه، ومشيرًا إلى ما وصفه بتزييف للوقائع وإغفال لمواطن خلل يعرفها الشارع أكثر من أي أحد. أما إدريس الأزمي الإدريسي فذهب أبعد من ذلك حين طرح شبهات تضارب المصالح في مشروع تحلية مياه البحر بالدار البيضاء، رابطًا بين خطاب الإنجاز وشبهات الاستفادة غير المعلنة.

هذا التباين بين الرواية الرسمية وردود المعارضة يعكس في العمق أزمة الثقة المتزايدة بين المواطن والسياسة. فالمغاربة الذين يتابعون هذه التصريحات لا يكتفون ببلاغات الأرقام أو استعراض الخطط، بل يقيسون المصداقية بما يلمسونه يوميًا في معيشهم: هل انخفضت كلفة العلاج فعلًا؟ هل وجدوا ماءً نظيفا في صنابيرهم دون انقطاع؟ وهل تحسّن وضع السكن أو التشغيل كما وُعِدوا؟ هنا، يظهر الفرق بين خطاب يقدّم صورة وردية، ومعارضة ترفع المرآة لتكشف ما يراه الشارع من هشاشة وارتباك.

لكن الإنصاف يقتضي القول إن لرئيس الحكومة بعض النقاط الإيجابية. فقد حاول أن يُبرز انسجام الأغلبية الحكومية، وهو أمر مهم في سياق إقليمي ودولي متقلب حيث يُنظر للاستقرار السياسي كشرط لجذب الاستثمار. كما أن تأكيده على أن وزارة الداخلية ستشرف على الانتخابات المقبلة، بناءً على توجيه ملكي، يقدَّم باعتباره خطوة لتعزيز الحياد الانتخابي بعد تجارب سابقة شابتها انتقادات. هذه الرسائل، وإن كانت موجهة أساسًا للخارج والداخل معًا، تحمل نفسًا تواصليًا لا يمكن إغفاله. لكن رغم ك ذلك فهذه الإيجابيات لا تعني شيئا كبيرا لجمهور عريض من المغاربة اكتوى بلهيب الأسعار وتدني جودة الخدمات وقلة فرص الشغل، بل حرم من شعيرة العيد التي كانت إلى وقت قريب ممكنة حتى في أحلك الظروف وقسوة الجفاف.

مع ذلك، تبقى المعضلة في الأسلوب أكثر من المضمون. فطريقة الخطاب التي اعتمدت الحوار المباشر لكن دون التفصيل أو حضور الأسئلة التي تحتاج توضيحات أعمق، أعطت الانطباع بأن الحكومة لا تزال تفضّل مخاطبة المواطنين من وراء جدار زجاجي، تتحكم في نبرة الأسئلة وصياغة الأجوبة، بدل الانخراط في نقاش مفتوح تُطرح فيه الأسئلة الحقيقية التي تشغل الناس. وهنا تكمن نقطة ضعف التواصل السياسي للحكومة أو رئيسها الحالي: فما لا يُقال أحيانًا يكون أبلغ مما يُقال.

المشهد السياسي اليوم يتأرجح إذن بين حكومة تسعى لإقناع الرأي العام بأن الحصيلة إيجابية ومبشرة، ومعارضة تحاول فضح ما تعتبره «تضليلا» أو «تجميلًا» للواقع، وشعب عريض يرى مغادرة الحكومة مطلبا ملحا وربما مسألة وقت فقط. وبين هذا وذاك، يقف المواطن مترددًا، متشككًا، لا يهمه من يحكم بقدر ما يهمه أن تتحسن أحواله فعليًا. فالكلمة الفصل ليست في شاشات التلفزيون ولا في بيانات الأحزاب، بل في الميدان حيث تُختبر الوعود وتُقاس بالنتائج.

إن خرجة أخنوش الأخيرة تكشف، أكثر من أي وقت مضى، أن السياسة في المغرب تحتاج إلى صدق أكبر وشجاعة أوضح. فالمغاربة لم يعودوا يقنعون بالخطابات المنمقة، بل ينتظرون ترجمة فورية للوعود في حياتهم اليومية. وبين خطاب يَعِدُ بالمستقبل وردود تكشف ثغرات الحاضر، يبقى الرهان الحقيقي هو استعادة الثقة قبل أن يقول صندوق الاقتراع كلمته النهائية، فهل ستكون الحكومة قادرة على الدفاع عن “حصيلتها” قبل المغادرة ؟

Leave a Reply

Your email address will not be published.