حوارات كافكا مع ثعلب المتاهة (4)

حوارات كافكا مع ثعلب المتاهة (4)

قلعة بلا مخرج: السياسة بين الوهم والسيادة

السعي الكافكاوي: البحث عن وجه السلطة

تدور رواية “القلعة” (Das Schloss) حول الساعي “ك.” (K.), الذي يصل إلى قرية غامضة ويزعم أنه استُدعي للعمل كـ “ماسح أراضٍ”. إنّ هدفه الوحيد، الذي يستهلك حياته بأكملها، هو الوصول إلى القلعة، مركز السلطة المُطلقة في القرية، للحصول على تثبيت لوضعه أو إقرار لوجوده. لكن هذه القلعة لا تُمكن رؤيتها بوضوح، إنها دائماً مُحاطة بالضباب، وأشخاصها غامضون، وقوانينها متناقضة، ومكاتبها لا نهائية. تُمثل القلعة أعلى صور البيروقراطية الكافكاوية؛ ليست مجرد مؤسسة، بل بنية وجودية مُعتمة، تُدير حياة الناس دون أن تكشف عن وجهها، وتَعدُ باليقين في الوقت الذي لا تُنتج فيه سوى المزيد من الشك والقلق. “ك.” لا يبحث عن العدالة، بل يبحث عن “الاعتراف” من سلطة لا تحتاج إلى الاعتراف به.

في السياسة الدولية المعاصرة، تحوّلت القلعة الكافكاوية من رمز محلي إلى رمز عالمي للسيادة الزائفة والسلطة المتوارية. إنَّ السلطة اليوم لم تعد متمثلة في عواصم واضحة (كـ واشنطن، بكين، موسكو، بروكسل) بالقدر الذي هي متمثلة في هياكل عالمية مُعقّدة لا تُسأل ولا تُرى؛ كـ المؤسسات المالية الدولية، واللوبيات العابرة للقارات، والتحالفات السرية للذكاء الاصطناعي، وحتى السرديات الإعلامية المُهيمنة. هذه هي “القلاع الحديثة”؛ لا يمكنك دخولها، لكن قراراتها تحدد مصيرك الاقتصادي والسياسي. الإنسان المعاصر، كالساعي “ك.”، يركض لاهثاً وراء معلومة، وراء قرار، وراء تصريح، محاولاً تثبيت وجوده في نظام عالمي لا يكترث بوجوده، بل فقط بمدى قدرته على الانصياع.

الثعلب يفضح السادة الغائبين: الحكم بلا وجه

بينما يرى كافكا القلعة كرمز للوحدة البيروقراطية التي تُفضي إلى العبث، يظهر الثعلب مُتنقلاً ببراعة بين ظلال القرية ومكاتب القلعة الافتراضية، مُحللاً هذا الغموض السياسي.

قال الثعلب: “لقد أخطأتَ يا فرانتز عندما تصورت أن العبث في القلعة يكمن في غموضها. العبث الأعظم هو أننا اليوم نتفاوض مع القلعة على سيادتنا، بينما هي لا تملك وجهاً يُفاوض! من هو ‘السيد’ في العصر الحديث؟ هل هو الرئيس المنتخب؟ أم هو صاحب منصة التواصل الاجتماعي التي تُحدد الرأي العام؟ أم هي الخوارزمية التي تُحوّل الأموال وتُطلق الطائرات المسيّرة؟”

ويُشعل الثعلب فتيل التحليل قائلاً: “السلطة اليوم تحكم بـ “الغفلة المُتعمّدة”؛ تحكم من خلال الوكلاء (مثل مسؤولي الاتحاد الأوروبي الذين لا يُعرفون، أو موظفي صندوق النقد الدولي، أو البيروقراطيين غير المُنتخبين في المنظمات الدولية)، وهؤلاء الوكلاء يعملون بـ “قوانين لا مرئية”. الصراع بين القوى الكبرى (واشنطن، بكين، موسكو) اليوم هو في جوهره صراع على إخفاء وجه القلعة خلف ضباب السيادة؛ فكل قوة تحاول أن تبدو هي “الحارس” للقانون الدولي، بينما هي تُريد أن تكون “القلعة” التي تضع القانون دون أن تُرى.”

إنَّ هذه القلاع السياسية تُمثل “سلطة وهمية” (Phantom Power)؛ فـ”ك.” كان يائساً لأنه لم يستطع الوصول إلى الكونت، أي إلى مركز القرار. أما الإنسان المعاصر فيعيش حالة يأس أعمق، لأنه يدرك أن لا “كونت” هناك أصلاً؛ لا يوجد شخص واحد أو جهة واحدة يمكن توجيه التهمة إليها. القلعة الحديثة هي “نظام إدارة عبثي” مصمم لإبقاء البشر في حالة “السعي الدائم” خلف إثبات الذات، ليصرفوا انتباههم عن حقيقة أن القلعة لا تهتم بحقيقة وجودهم من الأساس.

المصير المجهول: العيش في منطقة العزل السياسي

لقد أثبتت “القلعة” نجاحها في خلق حالة من العزل السياسي؛ فالساعي “ك.” يعيش في عزلة لأنه يُنظر إليه كـ “دخيل” دائم. وبالمثل، فإن الدول التي لا تتماشى مع القلعة العالمية تُعزل وتُفرض عليها العقوبات، أو تُصنّف كـ “دول مارقة”. إنَّ هذه العزلة ليست عقوبة، بل هي آلية بيروقراطية لإدارة التهميش وتبريره تحت غطاء “الشرعية الدولية”.

في هذا السياق، تكمن خطورة الرواية في أنها تكشف أن السيادة الوطنية للدول الصغيرة أصبحت مجرد “إجراء شكلي” لا يختلف عن محاولات “ك.” البائسة في الحصول على إذن من موظف مغمور. فمتى تُفاوض دولة صغيرة قوة عظمى، فإنها تُفاوض ليس شخصاً أو دولة، بل “القلعة” بكامل ثقلها البيروقراطي والمالي.

يختفي الثعلب في الظلال التي ألقتها القلعة على القرية، لكنه يترك لكافكا ولنا سؤالاً مفتوحاً يحمل شحنة قلق لا تنتهي: “هل نحن اليوم، يا فرانتز، في صراع من أجل السيادة الوطنية، أم أننا نسعى بعبث إلى نيل ‘اعتراف’ من قلعة لا تُرى، قلعة مُصمّمة فقط لكي تبقينا في حالة سعي وانتظار، دون أن تمنحنا أبداً حق الدخول أو حق العودة؟ وإذا كانت القلعة هي الوهم، فهل فوضانا اليوم هي دليل على حقيقتها، أم على فشلنا في مجابهة هذا الوهم؟”

من قلعة السلطة الغامضة، ننتقل في الحلقة التالية إلى مصدر السلطة الأكثر حميمية والأكثر قسوة: الأب. تابعوا: “رسالة إلى الوالد: عن السلطة الأبوية والجيوسياسية”

Leave a Reply

Your email address will not be published.