في قاعة تغمرها أنوار خافتة، حيث الأوراق المتناثرة بين دفاف الكتب تذكر بزمن المخطوطات والمكتوبات، جلس أمبرطو إيكو محدثا في رف مكتبة ضخمة مزدحم بكتب اللغات والرموز. وإلى جواره وحواره ثعلب السيمياء، ذو العقل الماكر الذي يختبىء ويختبر وراء وما وراء حدود الدلالة والمعنى الثاوي. كان الحوار هذه المرة حول سيميائيات الترجمة بوصفهما طريقا إلى كنه المعارف، وخوض المعارك الثقافية.
الثعلب مفتتحا كالعادة بسؤال ناري : “يا إيكو، كثيرا ما نسمع وما يقال أن الترجمة خيانة. أهي كذلك؟ أم هي فقط مقولة العوام؟ أم أنها، كما يراها البعض، ولادة ثانية للنص؟”
إيكو مجيبا: “الخيانة لا تكمن في الترجمة، بل في اعتقاد أن للنص معنى وحيدا. لقد كتبت يوما أن “النص آلة كسولة تحتاج إلى قارىء تنشيطها/قارىء نشيط”. والمترجم ليس قارئا وحسب، بل قارىء وكاتب في آن واحد. هو يقرأ النص الأول، ثم يعيد كتابته في لغة أخرى، مستعينا لرؤيته ومعرفته. الترجمة بهذا المعنى ليست نقلا، بل تأويلا، بلا إفراط ولا تفريط. إنها اختبار واختيار وتفاوض للحدود التي تسمح بها اللغة، وكشف للهوة بين اللغيات والألسن، وهذه الهوة هي ما لا ينبغي ردمها، بل استثمارها بما يخدم المعنى.”
الثعلب وهو يحاول ملاحقة الفكرة: “لكن أليس هناك ما يهدد المعنى حين يلقى في جوف لغة أخرى؟ بمعنى آخر أليس المعنى في خطر، وهل يظل النص هو ذاته؟”
إيكو موضحا للثعلب: “إن النص ليس كيانا جامدا، بل هو بنية مفتوحة تتغير بتغير تتعدد قرائها. وحينما نترجم النص، فإننا نمنحه حياة ثانية، والمترجم يغدو من خلاله ليش قارئا فحسب، بل قارئا وكاتبا في نفس الآن. فهو يقرأ النص الأول، ثم يعيد كتابته في لغة أخرى، مستعينا بزاده الرؤيوي والمعرفي. والترجمة تصير من خلال هذه الصورة ليست نقلا، بل تأويلا. إنها اختبار للحدود التي تسمح بها اللغة. ثمن حدود يفرضها النص ذاته ، حيث لا يمكن تفسير عنوان “اسم الوردة” على أنه من غير دلالة تاريخية ورمزية. النص هو حرية مضبوطة في التأويل، فهو يفتح فضاءات من المعنى/المعاني، لكنه لا يسمح بكل شيء. القارىء شريك، لكنه ليس سيدا مطلقا، والسيمياء هي نوع من الكيمياء، تمنحنا الأدوات بغاية الفهم، أي فهم منطلقات شرعية التأويل، وأين تنتهي.”
الثعلب متأملا فيما ورد وتخطر في باله تساؤلات طرحها في سؤال واحد: “إذن فالمترجم هو أشبه بسيمائي وكيميائي، يختبر الرموز والمحاليل، ويعيد تركيبها في سباق ومعادلات جديدة؟”
إيكو وهو يرد بنبرة الفيلسوف : “المترجم سيميائي لأنه بارع في قراءة العلامات وبنيتها، ولا يخوض في السطحيات. إنه أشبه بالكيميائي الذي يحول الذهب إلى فضة، من دون أن يضيع بريقهما. ولعل أجمل وأفضل ما في الترجمة أنها تجعل النص “لا نهائيا”، وبالتالي لا تنحصر قرائته في لغة بعينها بما فيها اللغة المصدر/الأصلية. وفي هذه بالتحديد هو ما نسميه رؤية العالم.”
وختم إيكو قائلا: ”أيها الثعلب، ذلك هو جوهر الأدب، يظل النص حيا، منفتحا على المستقبل، قادرا على أن يقرأ في لغات وأزمنة وأمكنة وثقافات مختلفة، دون فقدانه القدرة على “الإنجاب”، و “توليد/ولادة/استيلاد” معان جديدة.”
اقتنع الثعلب بما أُجيب به من لدن إيكو، غير أنه لا يشبع بعد من محاورات، في المعنى والدلالة والرمز، وفي مغامرات النص الذي يترجم. أدرك أن النص في النهاية لا يفقد روحه أو معناه أو حياته الأدبية، بل يكتسب حيوات أخرى.
Leave a Reply