يوميات من تحت الجسر
انسوا كل ما أخبرتكم به. انسوا حكمة الأجداد، ورائحة التراب النديّ، وفلسفة الخوف. لم يعد لتلك الترهات مكان. الغابة التي حدثتكم عنها؟ لقد أصبحت “كومباوند” فاخرًا، لا يدخله إلا من يملك “بطاقة دخول”.
أنا الآن “ثعلب مدينة”. نعم، من فصيلة “مُدَجَّن بالضرورة”.
لا تسألوني عن صيد الأرانب؛ فآخر أرنب رأيته كان مطبوعًا على علبة طعام قطط. صيدي اليوم هو سباق “دليفري” مع قطط الزبالة خلف مطعم “فاست فود”. المعركة ليست على الطريدة، بل على “بقايا” الطريدة. البقاء للأسرع في تمزيق الكيس الأسود.
قضيتنا الراهنة ليست البقاء على قيد الحياة، بل البقاء “بصحة عقلية”.
أراقبهم من تحت الجسر، حيث أسكن مؤقتًا بجوار ماسورة صرف صحي دافئة. أراقب بني آدم. يا لهم من كائنات متناقضة! يقضون نهارهم في مطاردة أوراق ملونة يسمونها “المال”، ثم ينفقونها ليلًا على طعام لا يأكلونه، بل “يصورونه”! يضعونه أمامهم، يوجهون إليه تلك المرايا السوداء (هواتفهم)، ثم يتركون نصفه ليذهب إلى حاوياتنا.
أحيانًا أتساءل: من الفريسة الحقيقية هنا؟
لقد طوروا شيئًا جديدًا يسمونه “الذكاء الاصطناعي”. يتحدثون إليه، يسألونه عن معنى الحياة. بالأمس، سمعت شابًا يسأل هاتفه: “هل أنا وحيد؟”. لو أنه نظر فقط تحت الجسر، لوجدني. لكنه لا يرى إلا ما في شاشته.
الخطر لم يعد طلقة البندقية. الخطر الآن هو “عجلة سيارة” رباعية الدفع يقودها شاب ثمل يستمع لموسيقى صاخبة تزلزل أركان الجسر. الخطر هو “سم فئران” وُضع بعناية فائقة في قطعة “برجر” لم يكملها أحدهم.
لقد تخلوا عن الفخاخ الحديدية القديمة، واستبدلوها بفخاخ لا نراها: فخ “التوصيل السريع” الذي جعلهم كسالى. وفخ “الشهرة الافتراضية” الذي جعلهم جوعى للاهتمام. وفخ “الأخبار العاجلة” الذي أبقاهم في حالة هلعٍ دائم.
أما نحن، معشر ثعالب الإسفلت، فقد تعلمنا الدرس. لم نعد نخاف مما هو واضح، بل صرنا نحذر مما هو “مُريح” و”لامع”.
عُرفنا القديم كان عن الخوف. أما عُرفنا الجديد، فيقول: “في غابة الإسفلت، لا تثق بالطعام المجاني، فإما أن يكون مسمومًا، أو مجرد إعلان.”
أراكم عند حاوية المطعم الإيطالي… إن سبقتُ القطط.

Leave a Reply