مَتاهةُ الثعلب : عن الصيد الأخير وفلسفة الأثر
أيها القارئ الذي رافقني عبر أثري في أربعين فجراً، وأصغى لهمسي بين تسعٍ وثلاثين ليلة، ها أنا ذا أعود إليك، لا لأروي حكاية صيدٍ عابر، بل لأُودِعَكَ سرَّ المتاهة كلها. لقد بدأتُ حديثي معك جائعاً وجِلاً، أترقب فأرة حقولٍ وأخشى فخاخ البشر، وكان الخوف يومها وليمةً تسبق وليمة الصيد. أما اليوم، بعد أن نقشت السنون حِكمتها على فروي، وعلّمتني الدروب ما لم تعلّمني الطرائد، أدركتُ أن الصيد الذي كنت ألهث خلفه لم يكن سوى القشرة الخارجية لجوهرٍ أعمق.
إن للصيد، يا صاحبي، وجهين: وجهٌ لنا، ووجهٌ لبني آدم.
صيدنا نحن، معشر دواب الفلاة، ليس اقتناصاً، بل هو حوارٌ بغير أبجدية. حوارٌ تبدأ فصوله مع أول خيط ريحٍ يحمل إلينا نبأ الطريدة، فيستيقظ فينا دمٌ عتيق وتنتصب كل حاسةٍ كحرفٍ في جملة القدر. إنه فنُّ الأثر، وقراءةُ الصمت، وفهمُ لغة العشب المكسور وهمس الحصى المزاح. لا عداوة بيننا وبين الأرنب الذي نطويه في أحشائنا، بل هو عقدٌ أزليّ، سُنّة الطبيعة التي لا تتبدل. هو يمنحنا استمرار الحياة، ونحن نمنحه شرف الموت في صراعٍ شريف، لا في غدرِ فخٍّ صدئ أو سمٍّ دسيس. إنها رقصة الفِطنة مع الغفلة، والسرعة مع الصبر، وفي نهايتها تنتقل الروح من جسدٍ إلى جسد في دورة الوجود السرمدية.
أما صيد بني آدم، فهو الذي علّمني معنى الخوف الحقيقي. إنه ليس حواراً، بل هو هندسة الغدر. هم لا يقرؤون الأثر، بل ينصبون الشِّراك. لا يواجهون، بل يختبئون خلف فوهات البنادق التي تقذف ناراً لا تعرف ناموس الغاب. رأيتهم بأم عيني، كما ألمحتُ لك في فجري الأول، يمزقون الفراء للزينة، ويقتلون لا ليسدّوا جوعاً، بل ليُشبعوا غروراً أجوف. صيدهم إعلان حربٍ على الطبيعة، ومحاولة بائسة لفرض منطقهم الأعوج على توازنها المقدس. إنهم الكائن الوحيد الذي يقتل دون أن ينظر في عيني طريدته، ولهذا، هم لا يفهمون سر الحياة والموت أبداً.
لقد أدركتُ بعد أربعين رحلة، أن الصيد الأعظم لم يكن يوماً لأجل طريدة سمينة، بل كان لأجل حكمةٍ ثمينة. الطريدة الحقيقية التي كنت أقتفي أثرها كل هذه المدة هي “المعنى”. كنت أبحث عن إجابة لسؤالٍ واحد: لِمَ كل هذا الكر والفر؟ لِمَ كل هذا الخوف والجوع؟
والآن، في محطتي الأربعين، أقول لك: إننا نصطاد لنؤكد أننا أحياء، وأننا جزءٌ من هذا النسيج العظيم. الخوف ليس لعنة، بل هو البوصلة التي تبقي حواسنا مشحوذة وقلوبنا نابضة. والجوع ليس عاراً، بل هو المحرك الذي يدفعنا للمشاركة في دورة الحياة.
لقاءنا الأول بدأ بهروبي من فأرةٍ مسمومة، أما لقاؤنا هذا فينتهي بوصولي إلى وليمةٍ لا يفسدها سُم. لقد وجدتُ طريدتي الأخيرة. إنها القناعة بأن البقاء ليس في امتلاء الجوف، بل في امتلاء الروح بحكمة الأثر.
أما عُرفنا القديم، فقد آن له أن يتجدد. لم نعد نقول: “نحن لا نشبع من مائدة الصيد، قبل أن نشبع من وليمة الخوف”. بل صرتُ أقول لنفسي ولكل ثعلب سيأتي من بعدي:
“إنما الصيدُ رحلةٌ إلى جوهر الحياة، وطعامنا الحقيقي هو الحكمة التي نجنيها من الخوف.”
أراك عند أثرٍ جديد، في متاهةٍ أخرى…

Leave a Reply