افتتاحية الثعلب (39)

افتتاحية الثعلب (39)

المدينة كمرآة للتحولات

في المدن الكبيرة، هناك دائمًا واجهة تُعرَض على الزائرين والسائحين والإعلام: أبراج زجاجية، مطاعم مضاءة، لافتات ضخمة، وحديث دائم عن التنمية والتطور. لكن خلف هذه الواجهة، تختبئ مدينة أخرى، مدينة لا يعرفها إلا من يمرّ من الأزقة الضيّقة، ومن يعيش على الهامش، ومن يسمع الأصوات الخفيّة التي لا تجد طريقها إلى شاشات التلفاز. تلك الأصوات هي التي تكشف لنا أن المدن ليست فقط أماكن للسكن والاقتصاد، بل هي كائن حي، يتنفس بالناس، ويغتني بتنوعهم، ويصرخ بصمت حين يتم تهميشه.

في العقدين الأخيرين، أصبحت المدن الكبرى مرآة واضحة للتحولات العميقة التي يعيشها العالم. من موجات الهجرة واللجوء، إلى صعود الطبقات الفقيرة والهشة، وصولًا إلى تمدّد العشوائيات ومناطق الظل. في الدار البيضاء أو القاهرة أو إسطنبول أو باريس، تتشابه المشاهد أكثر مما نتصور: حشود من المهاجرين، عمال يوميون يبيعون وقتهم مقابل قوت يومهم، أطفال يركضون بين السيارات، وأسواق موازية لا تدخلها الدولة إلا لمامًا.

هذه التحولات ليست مجرد “مظاهر” اجتماعية، بل هي دلائل على أن المدينة تُعيد تشكيل نفسها كل يوم. فحين لا تواكب الدولة هذا التغيير، يتولّى المجتمع العفوي مهمة صياغة حياة جديدة: أحياء عشوائية، لغات هجينة، اقتصاد غير مهيكل، وقيم بديلة.

من هم هؤلاء الذين لا نراهم؟
هم البائع المتجول الذي يجر عربته من الفجر حتى منتصف الليل.
هي العاملة المنزلية القادمة من قرية بعيدة، لا يعرف أحد قصتها.
هم الشباب الذين يملؤون المقاهي، يخفون البطالة تحت دخان الشيشة.
هم كبار السن الذين يراقبون من شرفاتهم انهيار قيم كانوا يعتقدون أنها ستبقى إلى الأبد.

هذه الأصوات لا تجد من يسمعها، لكنها موجودة. تتحدث بصمت، عبر تصرفاتها اليومية، عبر الغضب المكتوم، أو حتى عبر موجات الهجرة السرية التي تحوّل البحر إلى مقبرة جماعية. إنها أصوات تذكّرنا أن كل مدينة، مهما كانت متطورة، تحمل في عمقها هشاشة لا تُرى بالعين المجرّدة.

الغرباء والمدينة

المدينة الحديثة أصبحت مدينة “الغرباء”. ليس فقط بسبب المهاجرين، بل لأن حتى أبناءها يشعرون فيها بالغربة. العلاقات الإنسانية صارت أسرع من اللازم، والوقت أصبح أثمن من الكلام، والوجوه تتبدل بوتيرة تُفقدنا الإحساس بالانتماء. وهنا تبرز أسئلة كبرى: من يملك حق المدينة؟ هل هي للأغنياء الذين يملكون الشقق الفاخرة؟ أم للفقراء الذين يملأون الأرصفة بالحياة؟ هل هي للمستثمرين الذين يرسمون خرائطها من مكاتب مكيفة؟ أم للناس الذين يتنقلون في شوارعها كل يوم؟

حين ندخل مدينة ما، هناك دومًا بوابة: مطار، محطة قطار، طريق سريع، لافتة مضيئة. لكن ما إن نتجاوز تلك البوابة، حتى نكتشف مدينة أخرى، غير تلك المرسومة في الدعاية الرسمية. مدينة الأصوات الخفية. مدينة الغرباء. مدينة تبحث عن نفسها وسط تناقضات الحداثة والتقليد، الثراء والفقر، الانتماء والغربة. هذه هي المدينة الحقيقية، المدينة التي تُعيد تشكيل نفسها يومًا بعد يوم، بعيدًا عن أعين السلطة، وقريبًا من نبض الناس.

Leave a Reply

Your email address will not be published.